عربي ودولي

د. أحمد صفوت السنباطي يكتب: الأزمات الإقليمية تتحول إلى أدوات نفوذ في الصراعات الدولية

لم تعد الأزمات الإقليمية مجرد اختلالات محلية داخل دول تعاني من الانقسام أو ضعف المؤسسات، بل تحولت إلى أدوات فاعلة في لعبة النفوذ الدولي، تُستخدم بذكاء ومرونة من قبل القوى الكبرى لتعزيز مواقعها، أو لإضعاف خصومها، أو لفرض شروطها في ملفات أخرى تبدو في ظاهرها بعيدة عن تلك الأزمات. لقد أصبح من الواضح أن كل تصعيد إقليمي يحمل في طياته أهدافاً أبعد من حدوده الجغرافية، وأن القوى الدولية باتت تنظر إلى النزاعات باعتبارها فرصاً لا تهديدات، وإلى الفوضى باعتبارها أداة يمكن التحكم بها وإعادة توجيهها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.

يظهر هذا بوضوح في مناطق متعددة من العالم، حيث تستمر الأزمات من دون حلول حقيقية، لا لأن الأطراف المحلية غير راغبة في التسوية فقط، بل لأن بقاء الصراع يمنح أطرافاً خارجية نفوذاً أكبر وتأثيراً أعمق. ففي ليبيا مثلاً، تستثمر قوى دولية وإقليمية حالة الانقسام السياسي والعسكري لتأمين مصالحها في الطاقة والموانئ والتحكم في سلاسل الهجرة. وفي سوريا، تحوّلت الحرب إلى مسرح نفوذ متشابك، تتداخل فيه قواعد روسية وأمريكية وإيرانية وتركية، فيما يتم توظيف الوضع الإنساني والأمني ورقة ضغط في ملفات خارجية متشابكة.

الأزمات تُستخدم أيضاً كمختبرات لتجريب الأسلحة الجديدة، والتكتيكات غير التقليدية، من الحرب السيبرانية إلى الطائرات المسيّرة، حيث تتحول مناطق النزاع إلى ساحات لاختبار التفوق التقني والعسكري قبل تعميمه في مواجهات محتملة مع قوى كبرى. كما تُستثمر هذه الأزمات لإعادة تموضع الحلفاء والخصوم، وتوسيع قواعد النفوذ من خلال توقيع اتفاقيات أمنية طويلة الأمد، أو إنشاء تحالفات مرنة تحت ذرائع المساعدة أو الاستقرار.

في أفريقيا، خاصة في منطقة الساحل، يتم استثمار الأزمات الأمنية الناتجة عن الإرهاب أو الانقلابات لخلق واقع جديد يسمح لقوى مثل روسيا أو الصين أو الولايات المتحدة ببناء نفوذ استراتيجي في مناطق حساسة غنية بالموارد، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع اللاعبين التقليديين. هذه القوى غالباً ما تدعم أنظمة أو جماعات محلية، تمنحها موطئ قدم مقابل الحماية أو الدعم المالي، مما يعمّق من طبيعة الأزمة ويؤجل فرص الحل.

وفي بعض الأحيان، تُترك الأزمة مفتوحة عمداً لأنها توفّر ذريعة للبقاء العسكري أو التمدد الاستخباراتي، كما هو الحال في بعض أجزاء الشرق الأوسط أو البحر الأحمر، حيث باتت القواعد العسكرية تُقام تحت غطاء “الحرب على الإرهاب” أو “تأمين الممرات المائية”، بينما الهدف الحقيقي هو ترسيخ النفوذ في بيئة استراتيجية حساسة للتحكم بالتجارة العالمية أو خطوط الطاقة.

وفي موازاة ذلك، تُستثمر الأزمات في الخطاب السياسي الداخلي للدول الكبرى، حيث تُستخدم كذريعة لرفع ميزانيات الدفاع، أو لتمرير قوانين أمنية، أو حتى لتبرير فشل داخلي عبر خلق عدو خارجي دائم. كما تُستثمر الأزمات في التأثير على الرأي العام الدولي، وتشكيل السرديات الإعلامية، بما يعيد إنتاج صورة “المُنقذ” في مقابل “الفوضى”، ويبرر التدخلات باعتبارها واجباً إنسانياً أو أخلاقياً، بينما هي في حقيقتها جزء من صراع نفوذ طويل الأمد.

هذه الديناميكية المعقدة تجعل من الأزمات الإقليمية بيئة مثالية للقوى الطامحة في تعزيز دورها العالمي دون تكاليف المواجهة المباشرة. فبدلاً من دخول حرب شاملة، يتم استخدام أدوات غير تقليدية: تسليح جماعات، تمويل حملات إعلامية، استخدام العقوبات، التلاعب بالاقتصاد، دعم انقلابات أو إفشال حكومات منتخبة. كلها أدوات ناعمة تُستخدم بقوة في صراع النفوذ، الذي لم يعد يمر عبر الجيوش فقط، بل عبر إدارة الفوضى والإفادة منها.

وهكذا تتحول الأزمات من مجرد مشاكل مؤقتة إلى آليات دائمة لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية. وبينما تتصاعد الخسائر الإنسانية والاقتصادية في البلدان المتأزمة، تواصل القوى الكبرى هندسة واقع جديد يخدم مصالحها، ولو على حساب سيادة الدول واستقرار المجتمعات. إن ما يبدو فوضى من الخارج هو في جوهره نظام خفي من التفاعلات المدروسة، تُرسم من خلاله خرائط النفوذ في عالم يتغير بلا توقف.

د. أحمد صفوت السنباطي

الدكتور أحمد صفوت السنباطي بمحكمة النقض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى